سورة الجاثية - تفسير تفسير ابن عجيبة

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (الجاثية)


        


قلت: {ويوم}: منصوب بيَخْسَر، و {يومئذٍ} بدل منه، و {كل أُمةٍ تُدْعَى}: مبتدأ وخبر، ومن نصب فبدل من {كل أمة}، {والساعة لا ريب فيها}؛ مَن رفعها فمبتدأ، ومَن نصبها فعطف على {وعد الله}.
يقول الحق جلّ جلاله: {قل الله يُحييكم} في الدنيا {ثم يُميتكم} عند انقضاء أعماركم، لا كما تزعمون من أنكم تحيون وتموتون بحكم الدهر، {ثم يجمعكم} بعد الموت {إِلى يوم القيامة} للجزاء، {لا ريبَ فيه} أي: في جمعكم؛ فإنّ مَن قدر على البدء قدر على الإعادة، والحكمة اقتضت الجمع للجزاء لا محالة، وتأخيره ليوم معلوم، والردّ لآبائهم كما اقترحوا، حيث كان مزاحماً للحكمة التشريعية، امتنع إيقاعه لرفع الإيمان بالغيب حينئذ، {ولكنَّ أكثرَ الناس لا يعلمون} قدرة الله على البعث، وحكمة إمهاله، لإعراضهم عن التفكُّر بالانهماك في الغفلة، وهو استدراك من قوله: {لا ريب} إما من تمام الكلام المأمور به، أو مستأنف من جهته تعالى، تحقيقاً للحق، وتنبيهاً على أن ارتيابهم إنما هو لجهلهم وتقصيرهم في التفكُّر والنظر، لا لأن فيه شائبة ريبٍ ما.
{ولله ملكُ السماوات والأرض} أي: له التصرُّف فيما وفيما بينهما، وهو بيان لاختصاص الملك المطلق بالله، إثر بيان تصرفه تعالى في الناس بالإحياء والإماتة، والبعث والجمع والجزاء، وكأنه دليل لِما قبله، {ويوم تقوم الساعةُ يومئذ يَخْسَرُ المبطلون} الداخلون في الباطل، وهو الكفر، {وترى كُلَّ أمةٍ} من الأمم المجموعة {جاثيةً} باركة على الركب، مستوفزة من هول ذلك اليوم، يقال: جثا فلان يجثو: إذا جلس على ركبتيه، قال سلمان رضي الله عنه: في القيامة ساعة هي عشر سنين، يخرّ الناسُ فيها جثاةً على ركبهم، حتى إن إبراهيم ينادي: نفسي نفسي. اهـ. ورُوي: أن جهنم حين يؤمر بها أن تُساق إلى الموقف، تنفلت من أيدي الزبانية، حتى تهم أن تأتي على أهل الموقف جميعاً، وتزفر زفرة تذهب بحاسة الآذان، فيجثو الكل على الركب، حتى المرسلين، وكل واحد يقول: نفسي نفسي، لا أسألك اليوم غيرها، ونبينا عليه الصلاة والسلام يقول: «أمتي أمتي» نقله الغزالي، وعن ابن عباس: جاثية، مجتمعة، وقيل: جماعات، من: الجثوة، وهي الجماعة.
{كُلُّ أمةٍ تُدْعَى إِلى كتابها} صحيفة أعمالها، والمراد الجنس، أي: صحائف أعمالها، {اليوم تُجْزَون ما كنتم تعملون} في الدنيا، ثم يُقال لهم: {هذا كِتَابُنا} أضيف الكتاب إليهم أولاً؛ لملابسته إياهم، لأن أعمالهم مثبتة فيه، وإلى الله ثانياً؛ لأنه مالكه، والآمِرُ للملائكة بكَتْبِه، وأضيف لنون العظمة تفخيماً لشأنه، وتهويلاً لأمره، {ينطق عليكم بالحق} يشهد عليكم ملتبساً بالحق، من غير زيادة ولا نقصان، {إِنا كنا نَسْتنسخ} أي: نستكتب ونطلب نسخ {ما كنتم تعملون} في الدنيا، من الأعمال، حسنة أو سيئة، وقال ابن عزيز: نستنسخ: نثبت، ويقال: نستنسخ: نأخذ نسخته، وذلك أن الملكين يرفعان عمل الإنسان، صغيره وكبيره، فيثبت الله منه ما كان له ثواب أو عقاب، ويطرح منه اللغو، وروي عن ابن عباس وغيره حديثاً: «أن الله يأمر بعرض أعمال العباد كل يوم خميس، فينقل من الصحف التي ترفع الحفظة، كل ما هو مُعَدّ أن يكون له ثواب وعقاب، ويلقى الباقي»، فهذا هو النسخ من أصل.
وقيل: المراد بكتابنا: اللوح المحفوظ. قال صلى الله عليه وسلم: «أول ما خلق الله القلم من نور مسيرة خمسمائة عام، واللوح من نور مسيرة خمسمائة عام، فقال للقلم: اجر: فجرى بما هو كائن إلى يوم القيامة من عمل، برها وفاجرها، ورطبها ويابسها» ثم قرأ: {هذا كتابنا ينطق..} الآية، فيُروى «أن الملائكة تصعد كل يوم إلى الملك الموكل باللوح، فيقولون: أعطنا ما يعمل صاحبنا اليوم، فينسخُ من اللوح عمله ذلك اليوم، ويعطيه إياهم، فإذا انقضى أجله، قال لهم: لا نجد لصاحبكم عملاً بقي له، فيعلمون أنه انقضى أجله».
ثم فصّل أحوال أهل الموقف، فقال: {فأما الذين آمنوا وعملوا الصالحات فيُدخلهم ربُّهم في رحمته}، أي: جنته {ذلك هو الفوزُ المبين} الظاهر، الذي لا فوز وراءه، {وأما الذين كفروا} فيُقال لهم على وجه التقريع والتوبيخ: {أفلم تكن آياتي تُتلى عليكم} أي: ألم تكن تأتيكم رسلي فلم تكن آياتي تتلى عليكم، فحذف المعطوف عليه، ثقةً، بقرينة الكلام، {فاستكبرتم} عن الإيمان بها، {وكنتم قوماً مجرمين} أي: قوماً عادتكم الإجرام.
{وإِذا قيل إِنَّ وعد الله} أي: وكنتم إذا قيل لكم: إن وعد الله بالجزاء {حقٌّ والساعةُ لا ريبَ فيها} أي: في وقوعها {قلتم ما ندري ما الساعةُ} أيّ شيء هي الساعة، استهزاء بها، {إِن نظنُّ إِلا ظناً} أصله: نظن ظناً، ومعناه: إثبات الظن، فحسب، فأدخل حرف النفي والاستثناء ليفيد إثبات الظن مع نفس ما سواه. وقال المبرد: أصله: إن نحن إلا نَظُن ظناً، وإنما أوَّله؛ لأنه لا يصح التفريع في المصدر المؤكد، لعدم حصول الفائدة، إذ لا معنى لقولك: لا نضرب إلا ضرباً، وجوابه: إن المصدر نوعي لا مؤكد، أي: ظناً حقيراً ضعيفاً. وفي الآية اللف والنشر المعكوس. فقوله: {قلتم ما ندري ما الساعة} راجع لقوله: {والساعة لا ريب فيها}، وقوله: {إن نظن إلا ظناً} راجع لقوله: {إن وعد الله حق}، وكذا قوله: {وما نحن بمستيقنين} أي: لا يقين عندنا، وهو راجع لقوله {إن وعد الله حق}. قاله ابن عرفة. ولعل هؤلاء غير القائلين: {ما هي إلا حياتنا الدنيا} والله أعلم.
الإشارة: قل الله يُحييكم الحياةَ الفانية، ثم يُميتكم عن حظوظكم، وعن شهود وجودكم، ثم يجمعكم به إلى يوم القيامة، لا يعزلكم عن رؤيته أبداً، ولكن أكثر الناس لا يعلمون أن هذا يقع في الدنيا، مع أن المُلك لله يتصرف فيه كيف شاء، يُوصِّل مَن أراد، ويُبعد مَن شاء.
ويوم تقوم الساعة يخسر الباطلون والمبطلون، ويفوز المجتهدون والواصلون. وترى كُلَّ أمة جاثية من هيبة المتجلِّي باسمه القهّار، وهذذ القهرية- نعم- لا ينجو منها خاص ولا عام؛ لأن الطبع البشري يثبت عند صدمات الجلال. وقوله تعالى: {كل أمة تُدعى إلى كتابها} هو أيضاً عام، فيستبشر المجتهدون، ويحزن الباطلون، ولا يظلم ربك أحداً، فاليوم يوم عمل، وغداً يوم جزاء، فأهل الإيقان يفوزون بغاية النعيم والرضوان، وأهل الشك يخلدون في الخسران، فيظهر لهم ما لم يكونوا يحتسبون.


يقول الحق جلّ جلاله: {وبدا لهم} أي: ظهر لهؤلاء الكفرة {سيئاتُ ما عملوا} قبائح أعمالهم على ما هي عليه من الصورة المنكرة الهائلة، وعاينوا وخامة عاقبتها، أو: جزاؤها، فإن جزاء السيئة سيئة مثلها، {وحاق بهم ما كانوا به يستهزئون} أي: نزل بهم جزاء استهزائهم من العقاب العظيم، {وقيل اليومَ ننساكم} نترككم ترك المنسي، {كما نسيتم} في الدنيا {لقاءَ يومكم هذا} أي: كما تركتم الاستعداد له، ولم تبالوا به. وإضافة اللقاء إلي اليوم إضافة المصدر إلى ظرفه، أي: لقاء الله في يومكم هذا، أو لقاء جزائه، {ومأواكم النارُ} أي: منزلكم، {وما لكم من ناصرين} لا أحد يمنعكم أو يخلصكم منها.
{ذلكم} العذاب {بأنكم} بسبب أنكم {اتخذتم آياتِ الله} المنزَّلة {هُزواً} مهزوّاً بها، ولم ترفعوا لها رأساً، {وغرتكم الحياةُ الدنيا} وأَلْهتكم زخارفُ الدنيا، فحسبتم ألاّ حياة بعدها، {فاليومَ لا يُخرجون منها} أي: من النار، والالتفات إلى الغيبة للإيذان بإسقاطهم عن رتبة الخطاب، استهانة بهم. وقرأ الأَخوان بالخطاب. {ولا هم يُستعتبون} أي: لا يطلب منهم أن يعتبوا ربهم، أي: يرضوه بعمل صالح؛ لفوات إبانه، وإن طلبوا الرجوع لم يقبل منهم.
{فللّه الحمدُ} خاصة، {ربّ السماوات وَربّ الأرض ربّ العالمين} فلا يستحق الحمد أحد سواه، أي: فاحمدوا الله الذي هو ربكم ورب كل شيء، فإن مثل هذه الربوبية العامة، توجب الحمد والثناء على كل مربوب، وتكرير الرب للتأكيد والإيذان بأن ربوبيته تعالى لكل منهما بطريق الأصالة. {وله الكبرياءُ في السماوات والأرض} أي: وكبّروه، فقد ظهرت آثار كبريائه وعظمته في السموات والأرض، وإظهارهما في موضع الإضمار لتخفيم شأن الكبرياء، {وهو العزيزُ} الذي لا يُغلَب، {الحكيم} في كل ما قضى وقدّر، فاحمدوه وكبّروه، وأطيعوه، فصاحب هذه الصفات العظام مستحق لذلك.
الإشارة: وقيل اليوم ننساكم من شهود قُربى، كما نسيتم لقاء يومكم هذا، فلو ذكرتموني على الدوام لقربتكم على الدوام، ولو ذكرتموني على الانفراد لأشهدتكم ذاتي على التماد، ولكنكم اتخذتم آيات الله الدالة على وجودي من الكائنات، والدالة على شهودي من الأولياء، هزواً، وغرتكم الحياة الدنيا، فاليوم لا يخرجون من غم الحجاب، ولا يُمنعون من انسداله، ولا هم يرضون ربهم، فيرضى عنهم، فللّه الحمد على غناه عن الكل، وله الكبرياء في السموات والأرض، أي: رداء الكبرياء منشور على أسرار ذاته في السموات والأرض، وهو ما ظهر من حسها، كما هو منشور على وجهه في جنة عدن، كما في الحديث.
وقال الورتجبي: نفى الحق الكبرياء عن الحدثان؛ لأنه هو المستحق للكبرياء، وكبرياؤه ظاهر في كل ذرة، من العرش إلى الثرى، إذ هي كلها مستغرقة مقهورة في أنوار كبريائه، يعز بعزه الأولياء، ويقهر بقهره الأعداء، حكيم في إبداع الخلق وإلزامهم عبوديته، التي هي شرائعه المحكمة بحكمه، وقال سهل رضي الله عنه: وله الكبرياء: العلو والقدرة والعظمة، والحول والقوة في جميع الملك، فمَن اعتصم به أيّده بحَوْلِه وقوته، ومَن اعتمد على نفسه وكله الله إليها. اهـ. وبالله التوفيق، وصلّى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلّم.

1 | 2 | 3 | 4